أول وثيقة لتأسيس مأتم للنساء بالمنامة بتوقيع الشيخ خلف العصفور قبل 113 سنة
“نعم.. حضرت المرأة المصونة وبعد التعريف اعترفت بالوقف المؤيد الشرعي والحبس المخلد، بمحضر الراجي عفو ربه الغفور خلف بن أحمد آل عصفور”.
بهذه العبارات المتداولة آنذاك في جميع عقود الوقف التي تكدست في أروقة بيوت وغُرف أهل الشرع والقضاة في المنامة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين للميلاد، وبتوقيع الشيخ خلف العصفور، قاضي الشرع الرئيس في المنامة كافة للطائفة الجعفرية الكريمة؛ يتم العثور لأول مرة على وثيقة وقف لتأسيس مأتم للنساء بالمنامة مطلع القرن العشرين، قبل حوالى 113 سنة من الآن.
وحكاية هذه الوثيقة التي عثرت عليها بالمصادفة، وحُررت في اليوم الأول من شهر رجب الأصب للعام 1322هـ؛ تذكربأنه: “قد أوقفت المرأة المصونة مدينة بنت المرحوم الحاج حسن بن كاظم من أهل المنامة، تمام وكمال قطعة الأرض الكائنة ببيت سكناها الكائن بفريق المخارقة في المنامة من أعمال البحرين المحروسة المتنقل اليها من أبيها الحاج حسن المذكور بالأرث الشرعي الغني بالشهرة… وذلك على جهة مطلق الانتفاع بها بأن يشاد فيها مأتم لتعزية الامام ابي عبدالله الحسين في عشرة المحرم وغيرها في سائر أوقات السنة مطلقاً ليلاً ونهاراً وأن يقرى [يُقرأ] فيه وفاة النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ووفايات ابنائه الأئمة الطاهرين المعصومين، ومواليدهم، ومراثيهم، وممادحهم، في سائر الأوقات مطلقاً وقفاً صحيحاً صريحا شرعياً معتبراً مرعياً..مراعى فيه التقرب لرب البرية وقفاً مؤبداً وحبساً مخلداً الى أن يرث الله الارض ومن عليها. وجُعلت الواقفة على الولاية للوقف المذكور لنفسها مدة حياتها، ثم للصالح من أولادها، ثم للحاكم الشرعي أو للعدول من المؤمنين من أهل البحرين خاصة، فمن بدله من بعد ما سمعه فإنما اثمه على الذين يبدلونه والله سميع عليم. وليُعلم بأن الوقف المذكور فيه آنية للطبخ قدر كبير قد أوقفه سابقاً المرحوم الحاج حسن بن كاظم يشيل مَنّ، وثلاثة قدور وسط تشيل ثلاث ربعات، والقدر الرابع أبو خمس ربعات وصينيتين وطاسه ومشخال كبير، وجميع ما ذُكر عند المرأة المذكوره هو خاصة الوقف المذكور كيلا [كي لا] يخفى والله خير الشاهدين. تحريراً باليوم الأول من شهر رجب الأصب لسنة 1322هـ، الثانية والعشرين والثلثمائة بعد الألف من الهجرة المقدسة على مهاجرها وآله أفضل الصلاة وأكمل التحية والحمدلله رب العالمين”.
وقد تم تسجيل هذه الوثيقة الشرعية للوقف من جديد لدى “الطابو” أو التسجيل العقاري في البحرين بحسب الوثيقة رقم 301 على 1357-(1938) التسجيل 527 على 1358 (1939).
التعليق: أكثر من محطة يمكن الوقوف عندها تعليقاً على هذه الوثيقة، إلا أننا سنشير إلى بعضها فقط. وأهمها، أن هذه الوقفية تُعتبر، حالياً على الأقل، أول وأقدم وثيقة لتأسيس حسينية نسائية (مأتم) في المنامة، من باب ألا نشمل البحرين كلها فلربما توجد غيرها لا نعلم بها حتى اللحظة في قرى ومدن البلاد الأخرى. وقد جاءت بتوقيع واضح وصريح وموافقة ثابتة بّينه على حضور إمرأة في بحرين العام 1904م، أمام قاضي الشرع آنذاك في العاصمة لاثبات هذا الوقف بانشاء حسينية، للنساء في المنامة، مع أن الوثيقة لم توضح ما اذا كانت للرجال أم للنساء.
والمحطة الثانية، نطرح بها أسئلة حول موقع هذه الحسينية؟ وما اسمها؟ وهل ما زالت موجوده؟ حيث لم تذكر الوثيقة أمور تفصيلية عن الموقع وحدوده سوى وجود بئر ماء إرتوازية بقربه، وسجلت معلومة تاريخية جد مهمة، وهي أن فريق المخارقة كان أوسع مما هو واقع حالياً. حث أن الحسينية التي ذُكرت في وثيقة الوقف قد أنشئت فعلا في نفس موقع البيت في المنطقة التي تُسمي اليوم بفريق “بن حمد” أو “النخلتين”، باعتبار أن المنامة كانت بها بساتين عامرة في تلك الفترة. وهذه الحسينية للنساء في المنامة اليوم يتطابق اسمها مع اسم والد”المرأة المصونة مدينة”، الحاج حسن كاظم؛ وهي (حسينية بن كاظم للنساء) كما في الصورة المرفقة.
المحطة الثالثة، تثبت هذه الوثيقة بأن الحسينيات عند أهل البحرين ما قبل القرن العشرين كانت تُستخدم لكل المناسبات المحزنة والمفرحة التي لها علاقة بآل البيت الأطهار، بناءاً على ما ذكرته الوثيقة “وفايات ابنائه الأئمة الطاهرين المعصومين، ومواليدهم، ومراثيهم، وممادحهم، في سائر الأوقات مطلقاً”. أي، لم تكن (المآتم) حكراً على التعزية والنياحة، لذا حق علينا أن نُطلق عليها حسينيات.
المحطة الرابعة، أن المرأة المصونة مدينة، تُعتبر، إذا ما تحدثنا عن سيرة نساء المنامة؛ أول إمرأة تثبت لها الولاية الشرعية نصاً وباعتراف قاضي الشرع، على حسينية منذ أول يوم لتأسيسها.
وهذا يدل على قوة شخصية هذه المرأة، وتصديها لإدارة الحسينية منذ التوقيع على ورقة الوقف للتأسيس. كما يدل على الحرية في حراك المرأة المنامية التي كانت تتمتع بها في في الجانب الديني العقيدي وتفعيل الشعائر الحسينية دون مشاركة من الرجال.
المحطة الخامسة، أهمية ذكر أواني الطبخ في وثائق الوقف، فبالرغم من بساطة المذكور في تصورنا اليوم، إلا أنه آنذاك يُعتبر ثروة لا بأس بها. فقدور الطبخ، و المشخال (الغربال)، والصينية والطاس، وغيرها، كانت غالية الثمن حينها وهي تُجلب عبر البحار من الهند أو إيران، بالسفن التجارية.
المحطة السادسة، تأسيس دائرة (الطابو)، أو ما يُعرف اليوم بالسجل العقاري، لتسجيل كافة العقارات في البلاد ضمن سلسلة من الأرقام والسجلات لدى الدولة. وقد تم إعادة تسجيل هذه وقفية الحسينية، في العام 1938-1939م.، بعد أن ظهرت دائرة (الطابو) للوجود في الثلاثينيات من القرن العشرين في خلال فترة المستشار (تشارلز بلجريف).