الوجيه البحارنة يروي ذاكرة المنامة نوافذ من ذاكرة الوطن
الوجيه الحاج صادق البحارنة يروي ذاكرة المنامة نوافذ من ذاكرة الوطن
المنامة كانت بوتقة متجانسة انصهرت فيها كل الأديان والمذاهب والأفكار
الحديث مع رجالات البحرين الأوائل يكتسب أهمية استثنائية، كونه يلامس حقباً مهمة من ذاكرة الوطن ومخاضات الحراك السياسي والاجتماعي طوال قرنٍ من الزمان.
ثمة ملامح كثيرة يمكن استثارتها من ذاكرة ثرية لها مخزونها التاريخي الذي تتكئ عليه، لتروي صورة البحرين على مدار القرن العشرين في أبعادها المختلفة وزواياها المتعددة.
هكذا هو الحديث مع شخصية مثل الوجيه صادق الحاج محمد البحارنة الذي عايش بواكير البحرين المعاصرة والتأسيس الإداري لنواة الدولة، مروراً بحقبة الاستقلال وما بعدها من أحداث وصولاً إلى مشارف الألفية الجديدة.
في هذه الحلقات يتحدث صادق البحارنة عن ذكريات محفورة في القلب والوجدان، إنها خلاصة حقبٍ متراكمة. ويتشعب الحديث من المنامة المدينة في سكونها ووداعتها، إلىتجارب المسئولية في العمل الرسمي والأهلي والخاص على حدٍّ سواء.
وثمة أهمية بالغة لرواية تجربة كانت لحقب ممتدة لصيقة بدوائر صناعة القرار، وكذلك ذات احتكاك مع البيئة الاجتماعية عبر منابر ومواقع عدة في خطوط التماس مع أهل هذا الوطن من مختلف فئاتهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية.
كثيرة هي الأحداث، وكثيرة هي الذكريات… إنها نوافذ مفتوحة من ماضي هذا الوطن أثَّرت حتماً في رسم ملامح الحاضر واستشرافات المستقبل… هنا التذكر له رمزيته ودلالاته الاستثنائية على أكثر من صعيد.
في هذه الحلقة يتحدث صادق البحارنة بكثير من الحب والاعتزاز عن ذكريات محفورة من المنامة التي لم تفارق ذاكرته قط… وهنا نص الحوار:
كيف كانت نشأتكم في المنامة؟ ما الذي تستحضرونه من ذكريات في تلك العاصمة البسيطة والمتنوعة؟
– أنا ولدت في المنامة ببيت الشيخ سلمان العصفور (والد عبدالرضا العصفور وكاظم العصفور) وكانت ولادتي في الساعة الثامنة في 16 صفر 1343 (1925)، وانتقلنا لاحقاً إلى فريق المخارقة، وفي الواقع تسميته الأساس كانت «المشبر» وهو ساب من عين في (دولاب) يوسف فخرو ويصل إلى الباخشة (مدرسة فاطمة الزهراء (ع) في المنامة حاليّاً)، وكانت نساء المنطقة يأتين إلى هذا الساب ليغرفن الماء من هذا الساب، ولاحقاً قام المستشار تشارلز بلغريف (الذي أشرف على إدارة البحرين من 1926 الى 1957) بحفر بئر ارتوازية عند مسجد مؤمن وسد ذلك الساب، الذي اندثر أيضاً.
ومن ثم انتقلنا إلى بيت ذرية الحاج علي الصيرفي وهذا المكان عشنا فيه كل حياتنا إلى ولادة الأخوين حسين وتقي. ولاحقاً الوالد بنى بيتاً خلف المدرسة الجعفرية على الشارع وانتقلنا إليه إلى أن توفي الوالد في العام 1968. وعشنا مع أقراننا في هذا الفريق (الفريج).
كيف كانت ذكرياتك عن تلك الفترة؟
– الحياة كانت بسيطة للغاية، وأصدقاؤنا كلهم من الفريج نفسه أو من الفرجان المجاورة في المنطقة، أنا في الواقع من النوع الذي طبق الوالد (رحمه الله) عليّ هذا القول: «ربِّه سبعاً وعلمه سبعاً واصحبه سبعاً واترك حبله على غاربه»، فأنا لم أدخل مدارس حكومية، ولكن دخلت مكاتيب، عند المعلم الملا ناصر البلادي، وختمت القرآن وأرسلني الوالد إلى الملا أحمد النعيمي الذي علمني الخط، وكان يردد علينا ويطلب منا أن نكتب أشعاراً صعبة للغاية وبعضها لم يكن ذا معنى، ولاأزال أتذكر هذا البيت: «مكحلبجة تكحلبجت فأتوها المتكحلبجون فتكحلبجوا بها»، وكنا صغاراً ولا نعي ما نكتب، ولاحقاً دخلت مدرسة عبدالرسول التاجر ومقرها في بيت محسن التاجر، ولكن تهدّم المنزل، وكانوا عدة أشقاء (عباس التاجر ومحمد علي التاجر ومحسن التاجر)، وتعلمت في هذه المدرسة اللغة الإنجليزية، فأخذ عبدالرسول التاجر مجلس بيته وصار يدرّس فيه، واختارني أدرّس في غرفة ثانية، وعلمني على الآلة الكاتبة، وكان الناجحون ثلاثة عبدالغفار وجاسم الصفار وأنا، وكنا نكتب 125 كلمة في الدقيقة باللغتين العربية والإنجليزية.
ومن النكت التي حدثت أن دار الاعتماد البريطاني طلبت موظفاً، وكان الذي يختبرنا شخص اسمه مورفي (هندي الجنسية)، وكان على عهد الكظماوي وهو عراقي، وأعطونا آلة كاتبة وصحيفة إنجليزية، ولم أكن أعرف حينها أن الصحف فيها أعمدة عندما ينتهي عمود تبدأ العمود الثاني، فصرت أكتب بشكل متواصل من اليسار إلى اليمين وفرحت لأنني خلصت أول واحد، وقال لي مورفي الذي كان يختبرني: «هل تستطيع قراءة ما كتبت؟» فقلت له:«لا». فسقطني!
كانت مدرسة التاجر لها فضل كبير على مختلف الفئات ومنهم تجار البحرين. وكانت مدرسة أهلية بسعر رمزي روبيتين في الشهر، وتعب فيها التاجر كثيراً ولكن مع الأسف لم يتم تقديره، ومثلنا اسم المدرسة في روايات ومسرحيات منها «لولا المحامي» وكنا نقيم احتفالات المولد.
وأين كان مقرها؟
– مقرها كان في موقع سوبر ماركت «آخر فرصة» في المنامة (شارع الكنيسة) خلف بيت أحمد بن سلمان بن خلف، وكانت المكتبة كلها عنده موجودة. وكرس المرحوم التاجر حياته في المدرسة ليلاً نهاراً، ودرّس أجيالاً كثيرة في تعليم الناشئة، وبعد أن خرجت من المدرسة اتجهت إلى العمل، آخذ بضائع إلى السعودية والعراق، وكانت تسمى «شريطي» في الاصطلاح الشعبي، وفي الشرع من يعمل في هذه المهنة لا يُقصر في الصلاة لأنه كثير السفر.
وهل عملت في السوق مع الوالد؟
– في الحقيقة لم أرَ أباً مثل الوالد، اعتنى بأولاده الستة (ثلاثة من أم وثلاثة من أم أخرى)، ووالدتي بالمناسبة كانت عراقية، وكانت محبوبة للغاية لدى النساء، وكانت خطيبة حسينية، ولديها قصائد وشاعرة، وكانت مشهورة لدى أهالي المنطقة بالقراءة. فالوالد سافر العراق في العام 1339 هجرية (1920 م)، وتزوجها في 13 رمضان في ذلك العام، ومهرها كان 30 ليرة ذهب، لأن العملة السائدة آنذاك كانت بالذهب في العراق وكذلك في السعودية. ووالدتي تنتسب إلى آل البيت النبوي ونسبها يرجع إلى الإمام الحسن (ع)، وهي من عائلة الطباطبائي الحكيم في النجف الأشرف، لذلك صرت أتردد على العراق باستمرار.
وعلى ذكر الوالد (رحمه الله) قال لنا: «أنتم ستة والدكان صغير، فإذا جاء العميل (الزبون) أين يجلس». وكان مقر المحل في آخر شارع التجار عند عمارة عباس أبوالقاسم، قال سأعطي كل واحد 10 آلاف روبية سنة 1943، وكان مبلغاً ضخماً، أخي حسين وأخي تقي كانا يدرسان في بغداد.
وأنا أخذت 10 الآلاف وكونت لي تجارة، ولم أواصل في المحل، وسابقاً لم تكن توجد شيكات، وكانت تسمى «مسابعة»، فالشخص الذي عليه 2000 روبية يدفع 200 نهاية الأسبوع، بعدها ذهبت إلى لندن فقلت لأخي حسين الذي كان يدرس في لندن، وذهبت لدار المعتمد البريطاني ومورفي أعطاني قائمة بأسماء التجار والمصانع في بريطانيا، وطلبت من أخي حسين يكتب «درافت» أي رسالة انموذجية، وفي الساعة العاشرة كنت في غرفتي، يرسلون لي (سمبل) «نماذج»، الفندق كان أقل بجنيه، يمكن سعره الحالي، التايب (آلة الطباعة) الأولية فيها صوت، ضرب الباب عليّ شخص «هل تستطيع أن تنام الآن، وفي الغد أكمل عملك، لأن هذا غير مناسب» وحتى الآن لا أعلِّي على صوت التلفزيون، لأن تلك العبارة أصبحت درساً راسخاً في ذهني.
ومن ضمن الشركات التي راسلتها كانت شركة ملح، وكل يوم أرى رزمة سنابل في الاستقبال، وفي المحصلة أخذت شاكليت ماكنتوش وأدوات الحلاقة عطر أبومتوة القديم وشربت «أبو قلاص» إنجليزي، رغبة الناس في القلاص، وطوروه إلى جيك، لو تجيب 1000 كارتون تباع في الوقت نفسه في البحرين والسعودية، لأن «الجيك» أغلى من الشربت. وعند رجوع أخي تقي من الدراسة عمل معي، وتوسعت التجارة شيئاً فشيئاً.
ومن كان من أقرانكم في تلك الفترة؟
– صديقاي المرحومان حميد العريض، وعبدالمحسن المخرق، من صحبة الوالد تعلمت كل شيء، لأنه قبل أن يذهب مكتبه كان يزور كبار التجار مثل يوسف فخرو الكبير (والد أحمد وعبدالله فخرو) ويوسف كانو وعبدالعزيز العلي البسام والتجار الكبار، وفي الليل أحمل الفنر معه ونزور محمد طاهر خنجي والشيخ إسحاق، وبعد أن كبرت وفتحت المحل كنت أزور هذه العوائل على عادة الوالد.
كيف كانت العلاقة بين أهالي المنامة من مختلف الفئات؟
– المنامة كانت بوتقة متجانسة انصهرت فيها كل الأديان والمذاهب والأفكار، بصراحة لم تكن لدينا مفردات «سنة وشيعة» في حياتنا اليومية، فكنا نشتغل مع الجميع ونثق بالجميع ونتزاوج من الجميع ونتزاور مع الجميع والمجالس مفتوحة والقلوب مفتوحة أيضاً من الطرفين، وأبناء الأديان والمذاهب الأخرى كانوا يزورون الوالد في شهر رمضان وفي المناسبات، والوالد كان يمشي على قدميه ليزورهم.
وماذا عن أيام عاشوراء؟
– قسم منهم كانوا يحضرون المآتم في القراءة الحسينية مثل خالد العوجان، كذلك المدرسون كانوا يحضرون، والمواكب الرئيسية كانت ثلاثة: مأتم مدن ومأتم العجم ومأتم بن رجب، واستمر هذا الوضع إلى 1951 وهي السنة التي حدث نزاع فيها بين موكبي مأتم العجم الكبير ومأتم بن رجب عند مأتم حجي خلف، لأن في السابق لم يكن هناك جدول وترتيب كما هو حاليّاً. فالمستشار حبس ثلاثة من عائلة بن رجب، وحبس من العجم عباس بلجيك وواحد يسمى كاووش ومن مدن يوسف زليخ هرب إلى القطيف، فحبسهم أسبوعاً واحداً وأطلق سراحهم. ومنذ ذلك الوقت حدث تنظيم، وبدأ المستشار في وضع شرطة تنظم سير المواكب الحسينية.
هل كان ذلك قبل تأسيس هيئة المواكب الحسينية؟
– كان ذلك في عهد المستشار بلغريف. وهيئة المواكب الحسينية لم تكن موجودة، ولكن الشرطة كانت هي التي تتولى عملية التنظيم.
وكيف كانت أجواء محرم في تلك الفترة؟
– في القرى لم تكن هناك مواكب عزاء حسينية، لذلك كان جميع أهالي القرى ينزلون المنامة ويشتركون في مواكبها الرئيسية. وكانت قرى الديه وجدحفص والسنابس تشترك في مأتم مدن، وقسم آخر من القرى يذهبون إلى مأتم بن رجب. وكانت المواكب ضخمة جدّاً، لأن عدد المشاركين فيها كبير جدّاً وخصوصاً من القرويين.
وكانت في السابق تخرج شبيهات وسبايا وبنات مقيدات ويأتي الشمر وابن سعد يحمله عمانيون وقاعد على كرسي وعنده دوربيون ويصيح: «أين أنصارك يا حسين»، والعزاء يستغرق ساعات لكي ينتهي، في الدائرة الحالية نفسها، يبدأ من مأتم مدن ويمرون على مأتم بن رجب ويذهبون إلى مأتم مديفع (من دون أن يمروا بالمدرسة الإيرانية) ويصلون إلى مأتمي زبر ومدن ومن ثم يتفرقون، وكانت المواكب قوية ولها روعة.
وكيف كانت ليلة العيد؟
– أيام العيد في مسجد مؤمن، كنا باسم الأوقاف الجعفرية نجلب الشهود من خارج المنامة في سيارتنا أنا وسعيد المخرق وعبدالكريم الصيرفي، وإذا جلبنا الشهود تحصل زفة في ليلة العيد: «جابوهم، جابوهم»، ويقضي الشيخ باقر العصفور (رحمه الله) بثبوت العيد أو عدم ثبوثه.
وكان الكثير من العلماء والقضاة يحضرون هذا الاجتماع منهم الشيخ محمد سعيد العريبي، منهم من يقوم مقتنعاً، ومنهم من لا يقتنع. الشيخ باقر كان يكتب أوراقاً: «ثبت لدي العيد»، ونحن نذهب بالسيارة لنوزعها على المآتم والقرى ومختلف المناطق. ومسجد مؤمن كان مفتوحاً للجميع ويتجمع أهالي المنطقة على شوق انتظار خبر العيد.
وما الأحداث الأخرى التي عاصرتها في مسجد مؤمن؟
– كانت هيئة الاتحاد الوطني (1954 – 1956) تجتمع في مسجد مؤمن أحياناً، وألقى محمود المردي والشاعر عبدالرحمن المعاودة قصيدة حتى الأطفال كانوا يرددونها. وشهد المسجد أحداثاً سياسية على مدى سنوات طويلة. شخصيّاً ابتعدت عن التيارات السياسية.
وكيف كانت ذكريات شهر رمضان في المجالس؟
– لم تكن المجالس الرمضانية كثيرة، لكن كانت هناك مجالس محددة ومعروفة في كل منطقة، وبالنسبة إلى المنامة كان من أبرز المجالس في المنطقة: مجلس حسن مديفع في فريق الحطب (فريق كانو)، ومجلس الوالد كان قديماً جدّاً، يأتي الناس يباركون ويجلسون، أما تلاوة القرآن الكريم فكانت في البيوت.
وهل كان الخطباء يأتون من الخارج في تلك الفترة؟
– نعم، ومن أبرز الخطباء في تلك الفترة الشيخ عبدالزهراء الكعبي المشهور بقراءة المقتل يوم عاشوراء، وملا خضير في البصيرة، وملا أحمد بن رمل في مأتم مديفع. وكان المستشار بلغريف والشيخ دعيج ومحمد صالح الشتر يحضرون بعض المجالس الحسينية في مأتم مديفع. وحدثت الكثير من القصص والطرائف في تلك الفترة.
وما برنامجك اليومي طوال تلك السنوات؟
– أخذت العادة من الوالد، بعد الصلاة أقرأ نصف جزء، وأسبح وأذهب إلى العمل التجاري أو الأوقاف الجعفرية أيام رئاستي. وكان الأخ تقي يقوم بها، والأوقاف انتقلت من المدرسة الجعفرية ومن ثم باب البحرين واستأجرنا بناية الشيخ راشد، وأخيراً قمنا ببناء هذه البناية.
وما أبرز الدول التي سافرت إليها؟
– كنت رحالة في السابق من كثرة السفر. فقد سافرت إلى الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية، ولكن أكثر بلد أرتاح إليه هو لندن، وذهبت إلى اليابان مرتين ووصلت إلى أستراليا وأركبوني في مروحية إلى نيوزيلندا، وكنت أزور العراق ولبنان سنويّاً، كما زرت العديد من البلدان العربية الأخرى
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 3452 – الأحد 19 فبراير 2012م /حيدر محمد