manama story
5 يونيو 2017 حوارات

الحاج سلمان الدلال يفتح شرفة الذكريات من «باب البحرين» في فترة الخمسينيات

لا يخلو الحديث مع واحد من الرعيل الأول من المثقفين والمعلمين البحرينيين من التشويق والإثارة والمعلومات الغزيرة… لهذا، فإن إعادة شريط ذكريات جميل لا يزال يعبق في ذاكرة الحاج سلمان بن ماجد الدلال يمنح القارئ مساحة لا بأس بها من العيش في مذاق خاص لحقبة مهمة في تاريخ البحرين.

الحاج سلمان الدلال من مواليد العاصمة (المنامة) في العام 1936، وتحديداً في فريق «الحطب» الذي يقول عنه: كانت مرحلة طفولتي وصباي وشبابي في فريق «الحطب»، والذي سمي فيما بعد فريق «كانو».

وقد يجهل الكثير من القراء سبب تسميته بفريق «الحطب» وفي هذا الشأن يقول الحاج الدلال إن سبب التسمية يعود الى أن الناس في السابق لم يكونوا يستخدمون الأفران أو المواقد في الطبخ، فكان الحطب هو الوقود المستخدم في المطابخ، وكان الفلاحون من أهالي القرى يأتون إلى الفريق بكميات من الكرب (عجز سعف النخيل) لبيعه في فترة العصر، في المنطقة الواقعة حاليّاً بين المخبز الوطني الحديث والمخبز الشرقي بالقرب من شارع خلف العصفور، وكان البعض منهم يبيع الحطب في الفترة الصباحية بالقرب من مأتم مدن، لكن المكان الأكبر لبيعه كان في فريق «الحطب» لهذا سمي بهذا الاسم.


القسم الداخلي بالمدرسة الشرقية

ويمضي الحاج الدلال في استذكار مرحلة الدراسة الابتدائية فيقول:وإذا أردتم أن أتحدث عن مرحلة الدراسة الابتدائية فكانت في المدرسة الشرقية، وموقعها الآن هو موقع المخبز الشرقي، وفي المنطقة ذاتها كانت تقع دائرة المعارف في الجهة الجنوبية من المدرسة الشرقية، وكانت دائرة المعارف تشمل مدرسة ثانوية تضم قسماً داخلياً يدرس فيه الطلاب من القرى ومن الرفاع ومن الحد ومن المحرق ومن أبناء بعض العوائل الخليجية، فقد كان الأديب السعودي غازي القصيبي زميل لنا في المدرسة، وكانت للقسم الداخلي إدارة خاصة، فقد كان الطلاب يأتون إلى القسم عصر يوم الجمعة الى عصر يوم الخميس إذ يأتي ذووهم لأخذهم، وفي القسم برامج تعليمية وترفيهية وتنظيم لمواقيت الصلاة وكانت هناك مكتبة عامة في المبنى ذاته الذي يمتلكه المرحوم منصور العريض وكان يديرها محمد صنقور إلى أن انتقلت إلى منطقة القضيبية في العام 1953.

وكان الدوام المدرسي آنذاك على فترتين، صباحية وفترة بعد الظهر، فالفترة الصباحية كانت تبدأ عند السابعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، وتبدأ فترة بعد الظهر من الساعة الثانية إلى الرابعة عصراً، وعادة ما كنا بعد انتهاء اليوم الدراسي، وخاصة في فصل الربيع، نتوجه الى «الباخشة»، وهي حديقة تتوسط المنامة وتفتح أبوابها في الساعة الرابعة عصراً، وكان به نبع ماء تم الاعتماد عليه في تزويد أهالي المنامة بالمياه، وأتذكر أنه بالقرب منها كان هناك قسم لسكن مفتشة تعليم البنات وفيقة ناير في دائرة تعليم البنات وزوجها بالمناسبة كان مدير القسم الداخلي بالمدرسة الشرقية.


من الباخشة إلى المكتبة العامة

وكانت المدرسة الشرقية التي تعلمنا فيها، تعمل بنظام خاص؛ ففيها المرحلة التحضيرية التي تمتد إلى ثلاث سنوات، ثم يبدأ بعدها الصف الأول الابتدائي، الى الصف الرابع الابتدائي الذي يعادل حاليّاً الصف السادس الابتدائي، أما في القرى، فلم تكن هناك مدارس سوى مدرسة الخميس التي كانت تعرف بالمدرسة المباركية العلوية، ثم تم إنشاء مدرسة في قرية البديع.

وينتقل الى حديقة الباخشة، فيصفها بأنها كانت بالنسبة إلى الكثيرين متنفساً حيويّاً ففيها بعض الحيوانات كالغزلان وكانت فرقة الشرطة تأتي عصر كل يوم إثنين لتعزف المقطوعات الموسيقية لمدة ساعة إلى ساعة ونصف والمايسترو كان ضابطاً آسيويّاً، أما المتنفس الآخر لنا فقد كانت المكتبة العامة التي نقصدها للقراءة واستعارة الكتب والمجلات إذ كان غالبية الطلاب لا يتمكنون من شراء المجلات والصحف، فكانوا يقرأونها في قاعة المكتبة العامة.

والدي المرحوم الحاج ماجد بن حسن الدلال كان تاجر لؤلؤ، أي طواشاً، وبالمناسبة، كان الطواويش من أهل المنامة يلبسون الجبة والعمامة، أما طواويش أهل المحرق والحد فقد كان أكثر ما يميز هيئتهم هو (العقال الأبيض).


زواج ينتهي بجريمة!

وعن أكثر الذكريات التي لاتزال باقية في سجل ذكرياته، يقول الحاج الدلال، إن من الأشياء الطريفة التي مرت في حياتي، هي تزويجي عجز سعفة نخيل (كربة) في فترة قصيرة من طفولتي! والسبب في ذلك هو أن والدتي، كانت قد أنجبت أخي الأكبر، وبعدها لم تتمكن من الإنجاب فكانت كلما أنجبت طفلاً يموت حتى أنجبتني، وكما تعرف، فإنه في فترة الأربعينات، كانت الرعاية الصحية سيئة، والولادات كانت تتم في المنزل على أيدي القابلات المحليات من النساء ذوات الخبرة، ولم يكن الناس يتجهون إلى المستشفيات المتوافرة آنذاك للولادة.

وقد سمعت من والدتي، وفقاً لنصيحة بعض النسوة لها، فإنها نذرت أنها إذا أنجبت ولداً فستزوجه للكربة، أي سعفة نخيل، وبالفعل، بعد ولادتي وعندما بلغت من العمر 7 سنوات، زوجوني بالكربة وأتذكر أنه من ضمن من حضر زفافي في ذلك اليوم من أندادي الشيخ عبدالحسين العصفور والسيد مهدي السيد شبر القصاب ومجموعة من أقراني في الفريق، بل إنهم أخذوني للصلاة أيضاً، وذات يوم، عندما كنا نتناول طعام الغذاء، قام أخي الأكبر رحمه الله، وكان يعمل نجاراً، يتعمد إغاظتي بالقول (أبو كريبة) وكنت بالفعل أستشيط غضباً، وذات مرة، قال لي الكلمة ذاتها (أبو كريبة)، فغضبت وأخذت فأساً وتوجهت الى كربة النخيل التي كانت مشابهة للدمية الخشبية وقد صنعوا لها يدين ورجلين، وضربتها ضربة قسمتها إلى قسمين ورميتها، ولم يعاقبني أحد على هذه الجريمة… (يضحك)… والغريب أن أحد أصدقائي مر بالتجربة نفسها وزوجوه من كربة لكنه كان يخجل من إعلان السر.


أصدقاء الطفولة والصبا والشباب

وحينما كنت طالباً، كنت أعمل وقت العصر أو في العطل الصيفية في بيع الليمون واللوز من أجل توفير بعض المال، وخصوصاً أن تجارة اللؤلؤ تعرضت للكساد بعد إنتاج اللؤلؤ الصناعي، وتعرض الوالد لخسارة كبيرة حاله حال الكثيرين من تجار اللؤلؤ، وأصبحنا نعيش في حالة ميسورة على رغم الأزمة لأننا كنا نملك في بيتنا بعض الأبقار، فكنا نبيع الحليب، لكن أول مهنة عملت فيها رسميّاً هي مهنة التدريس في العام 1954 الى العام 1978 ثم توجهت إلى العمل الحر في مطلع الثمانينات وخصوصاً في مجال العقارات، وأتذكر أن صديقي محمود علوي شبر كان مدرسي حينما كنت طالباً، ثم مديري وأنا معلم كما عملنا مع بعض في الإدارة المدرسية وعلاقتنا القوية التي أعتز بها مستمرة حتى اليوم.

وقد ربطتني علاقة صداقة بالكثير من الأصدقاء الذين أعتز بهم أيضاً، منهم: حسين غلوم شرفي، محمد صالح عبدالرزاق، إسحق خنجي، عبدالحميد مفيز، وقد كونت مع عدد من الأصدقاء رابطة رواد الحركة الكشفية، وكان عندنا مقر في معهد المكفوفين يرأسه محمد حسين الجودر، وكنت منذ دراستي في المدرسة الشرقية، أشارك بقوة في الفعاليات والأنشطة الرياضية والثقافية والفنية فقد كانت لدينا في المدرسة عدة جمعيات مثل جمعية الفنون التشكيلية، جمعية التمثيل، جمعية الرياضة البدنية، وأتذكر أن المرحوم الشاعر السيد رضي الموسوي يدرسنا اللغة العربية، وكان يطلب منا حفظ قصائد طويلة، وذات مرة طلب منا حفظ قصيدة لعنترة بن شداد يقول مطلعها:

سكت فغر أعدائي السكوت

وظنوني لأهلي قد نسيت

وكيف أنام عن سادات قومي

أنا في فضل نعمتهم ربيت

ودعني أقول إنه في بعض أمسيات الخميس (ليالي الجمعة) نذهب إلى السينما، وشاهدت فيلم عنترة بن شداد وأعجبتني شخصيته، لكنني لم أكن حفظت القصيدة التي طلبها معلمنا السيد رضي الموسوي، وحين جاء دوري لتسميع القصيدة طلبت منه أن أقف بالقرب من السبورة للتسميع فاستحسن الفكرة، فتقمصت شخصية عنترة بن شداد، وأقوم بالدور وآكل بعض الأبيات لأنني لم أكن أحفظ القصيدة، فأعجب معلمي بالأداء وكان أحمد يتيم يرأس فرقة التمثيل، وفي تلك اللحظات كان واقفاً خارج الفصل يشاهد أدائي فأشار إلي وتوجهت إليه وعرض علي الانضمام إلى فرقة التمثيل بالمدرسة، وكانت تلك بدايتي في التمثيل.


ملتقى شارع «باب البحرين»

ويتحول حديث الذكريات الى «شارع باب البحرين» فيقول الحاج الدلال: كانت المنامة في فترة الخمسينات بمثابة ملتقىً تجاري وفكري وثقافي وسياسي وفني، فشارع باب البحرين كان يبدأ من موقع الباب وينتهي عند كنيسة القلب المقدس، أما بالنسبة إلى تقاطع شارع الشيخ عبدالله المتفرع عن شارع باب البحرين، فقد كان يعج بالمكتبات ومنها مكتبة الشيخ محمد علي التاجر في قلب سوق الطواويش في منعطف داخلي، ومكتبة سلمان أحمد كمال من الجهة الشمالية، ومكتبة ابراهيم عبيد من الجهة الجنوبية قريباً من شارع الشيخ عبدالله، وكان الملتقى في مقهى يقع على شارع الشيخ عبدالله، ويجتمع فيه الشباب من المنامة والمحرق والحد وبقية قرى البحرين، وكان باب البحرين وكأنه مركز التجارة والثقافة والفن والسياسة، وهذا الشارع تجد فيه الشباب يجتمعون في فترة الخمسينات، وهي الفترة التي شهدت ولادة هيئة الاتحاد الوطني وبروز المد الناصري والقومي، فتجد في ذلك المقهى شباباً من مختلف الاتجاهات، وفي يوم الجمعة، منذ الصباح حتى أذان الظهر، كنا نرى أهل الفن في زاويتهم المعهودة، وأهل السياسة في زاويتهم، وأهل التجارة كذلك، ولأن تجارة اللؤلؤ كانت تحتضر في فترة الخمسينات، فقد كان تجار اللؤلؤ ومن بينهم والدي رحمه الله، يجتمعون في مقهىً خاص بهم ويتجاذبون أطراف الحديث وكنت أحضر مع الوالد في بعض الأوقات.


صداقتي والشيخ الجمري (رحمه الله)

وكان مستوى الوعي في تلك الأيام مرتفعاً ولربما أكثر من الوقت الحالي بكثير بين الشباب، ففي أيام المدرسة على سبيل المثال، كانت المدارس مختلطة، فيها المسلم وغير المسلم، وكان بيننا طلاب يهود ومسيحيون وبعض زملائنا الطلبة من اليهود والمسيحيين مجاز لهم عدم حضور حصة الدين لكنهم سيحصلون على نصف الدرجة، لذلك، كان البعض منهم يبقى في الفصل ليحرز الدرجة الكاملة فلم تكن هناك تفرقة دينية ومذهبية وطائفية أبداً ولم نكن نشعر بهذا الشعور، وكانت تربط عوائل المنامة والمحرق والحد رابطة قوية فيما بينها، وكان مجلس التاجر منصور العريض في المنامة مثلاً، ملتقى التجار وخصوصاً من أهل المحرق الذين لا يتمكنون من العودة إلى المحرق أو الحد في فترة الغداء، فكانوا يتناولون غداءهم في بيت العريض، وفي ذلك الوقت كما تعلمون، كانت وسائل الاتصال والإعلام معدومة لكن التواصل بين الناس قويّاً عكس اليوم في عصر تقنية التواصل والإعلام فالتواصل بين الناس يكاد يكون معدوماً في كثير من الأحيان.

ويواصل الحديث ليشير الى أن سوق المنامة لها مكانة تاريخية وحضارية وإنسانية في نفوس أهل البحرين، وبالنسبة لي، كان هذا السوق ولا يزال يمثل لي جزءاً من ذاتي… أتذكر أن صداقتي بالمرحوم العلامة الشيخ عبدالأمير الجمري (رحمه الله) بدأت عندما عملنا سويّاً في محل للملا عبدالحسين حميدان، وكان المرحوم يدرس ويعمل وكنت أنا كذلك، فقد كان الشيخ يتيماً لأن والده توفي وهو صغير وتولى الملا عطية الجمري (رحمه الله تربيته)، وكانت الأسواق تعج بأهلها كسوق الحدادة وسوق الصفافير وسوق النجارين والجص والتمر والخضرة، وفي سوق الأربعاء، أتذكر من المشاهد التي كنا نشاهدها، أن الشرطة كانوا يأتون بالمساجين أو المحابيس وكان يطلق عليهم أيضاً (القيدية) الذين صدرت عليهم أحكام قضائية، ثم يعاقبونهم عن طريق إجبارهم على القيام بأعمال التحميل في صورة سيئة من العبودية، وكان المستشار تشارلز بلجريف يجلس في شرفة من مبنى البلدية المقابل ليشاهد معاقبة المساجين، ومع أنه له سيئات كثيرة، أي المستشار، لكنني أرى أن له حسنات أيضاً في تأسيس نظم الإدارة كأموال القاصرين والمحاكم وأنا شخصيّاً ولدت وهذه الأنظمة موجودة ومعمول بها.

كذلك الحال كان الوضع بالنسبة إلى سوق الخميس الذي كان مخصصاً لبيع الحيوانات والإنتاج الزراعي من الصباح إلى وقت أذان الظهر، وقد نقل الملا محمد علي الناصري بعض المشاهد ممن سبقوه عن معاقبة القيدية في ساحة السوق.

أما كلمة الختام، فهي تلك التي تجوب في ذاكرة المنامة كلها، وكيفية المحافظة عليها كعاصمة لها كل هذه المكانة، فالحاج الدلال يرى أن إعادة الحياة إلى المنامة والى سوقها لا يمكن إلا بإعادة أهلها إليها وهذا صعب، فحين تمشي في سوق المنامة اليوم تشعر وكأنك غريب، وقد علمنا بأن هناك توجهاً لإحياء بعض المواقع في المنامة ومنها بيت الحاج محمد خلف الذي تم تسجيله ضمن البيوت التراثية، ويسعدنا كثيراً أن تنجح المساعي لإعادة الروح إلى المنامة العزيزة.

العدد 2943 – الإثنين 27 سبتمبر 2010م الموافق 18 شوال 1431هـ

مواضيع متعلقة

الوجيه البحارنة يروي ذاكرة المنامة نوافذ من ذاكرة الوطن

من تاريخ سوق المنامة القديم، مهنة الطواشة.. إلى أين انتهت؟

حميد آل نوح: البحرينيون القدامى لهم فضل على الخليج

أضف تعليقك

ملاحظة: بريدك الإلكتروني لن يتم نشره. الحقول المطلوبة بجانبها علامة *

*