نشأت المنامة من دون قرار.. وتوسعت بلا حدود
بن حموش مؤرخاً لعمران العاصمة
نشأت المنامة من دون قرار.. وتوسعت بلا حدود 1-2
نشأت مدينة المنامة من دون قرار بإنشائها. أقامها الناس بأنفسهم، فازدهرت، وسكنوها فحضنتهم وحضنوها. لم يأت أحد ليضع خطة للمدينة مثل عديد من مدن نشأت بالجوار. أنشأتها الطبيعة، واستجابت لحاجات البشر، واستفادت من مصادر الموقع، فكانت عاصمة للأرخبيل وميناء للخليج. ولقد قام مصطفى بن حموش
الأستاذ بجامعة البحرين والقادم من الجزائر بالتأريخ لها في كتاب، هذه جوانب بارزة منه.
استمدت المنامة أهميتها من موقع الجزر على الطريق بين شمالي الخليج وجنوبه، والرابط بين العراق وفارس والهند. كانت منذ قديم الزمان في موقف المتحكم ليس لكونها ميناء البحارة وملجأ السفن حين تواجه الكوارث، ولكنها، هي وبحرها الضحل المحيط بها، مواقع انبجست بها العيون الطبيعية، فأضحت مكاناً للتزود بالمياه.
انتمت المنامة والجزر عموماً لشبه الجزيرة العربية ولكنها فتحت صدرها للتيارات والثقافات والجماعات القادمة من البلدان التي ترتبط بها، فاغتنى نسيجها الاجتماعي، واتسع أفقها، وفتحت رئتيها لرياح التعدد وثراء التسامح.
في البدء كانت بيوتاً وأكواخاً
توسطت المنامة عدة قرى بداخلية البحرين وبسواحلها، وكانت متصلة بها، يسهل اجتياز المسافات من تلك المواقع وإلى المنامة في اليوم ذاته بوسائل تلك الأيام. وكانت عند زيارة تيودور بينت لها العام 1889 تتكون من مجموعة بيوت بيضاء اللون وأكواخ من قصب تمتد حوالي ميلاً ونصف الميل على طول البحر. وشكلت المركز لتلك القرى والبلدات، يقصدها السكان من تلك المواقع للتزود بحاجاتهم وبيع منتجاتهم في أسواق أسبوعية عرفت بها.
كانت الحياة بسيطة، والعلاقات بين الأطراف المختلفة لا تبعد عن هذا الوصف. واستقامت المنامة في ظل مدن أخرى حتى قدم البريطانيون. قبلها كانت المحرق هي العاصمة السياسية والتجارية والثقافية للبلاد واستمرت كذلك لقرن من الزمان أو يزيد. وتبلورت العاصمة الجديدة وسط حضور قوي للمحرق.
وشكلت قرى المنامة ضواح لها ثم باتت جزءاً لا يتجزأ منها بفعل التطور واقتراب العمران. كانت المنطقتين الأقرب هما النعيم غرباً ورأس رمان من الشمال الشرقي. كانتا في البدء منفصلتين عن قصبة البحرين، ثم امتدت إليهما. وحين شق طريق البديع شكل صلة وصل بين العاصمة وقرى الساحل الشمالي. وشُق طريق الشيخ سلمان ليربط العاصمة بوسط الجزيرة ليمر قرب عالي ومتجهاً حتى الرفاع. ثم اتصل بشارع الشيخ حمد ليربط الرفاع بعوالي وبما بينهما من مواقع.
الوقوع على خليج الخطر
يسمى الممر المائي الذي يمر بين المحرق والمنامة بخليج أو خور قليعة، أو جليعة حسب اللفظ الشعبي. كان خاصرة البحرين اللينة ومتجه غزاتها إن أرادوا أن ينالوا منها. وزيد على ذلك احتوائه على نبع ماء يرتفع من البحر ليشكل هدف السفن وأول ما يتجه الغزاة للسيطرة عليه، إما بغرض التزود بالمياه وإما لتضييق الخناق على المدافعين عن الجزر وعليها. وبهذا بعض ما يفسر اختيار موقع مدينة المنامة. فقد أطلت رؤوساً ثلاثة وهي الجفير ورأس حالة بن أنس ورأس المنامة معاً على خور الجليعة. وللدفاع عن الجزر أنشئت قلعة أبي ماهر على ساحل المحرق وقلعة الديوان بالمنامة، وكانت المنطقة التي تمتد من شارع الشيخ محمد بن سلمان إلى الشاطئ بحراً تلك الأيام. وتساعدها في ذلك ولربما لسبب مماثل قلعة عراد التي أنشأها حسب أرجح الأقوال سلطان بن أحمد سلطان عمان حين غزوه البحرين بنهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر.
وعلى ذلك كانت المحرق هي السابقة في النشأة والنهوض والازدهار، ولربما امتدت المنامة لتشكل متجه لنشاط أهل المحرق وسوقاً ثانياً لنشاطهم على الجزيرة الكبرى. وهكذا جرى ردم المنطقة الممتدة ما بين قلعة الديوان والتي عرفت لاحقاً بقلعة الشرطة أو حتى بـ ”الجلعة” اختصاراً. وبرز وسط ذلك الردم باب البحرين، ليربط بين سوق المدينة من جهة والميناء النشط المنشأ حديثاً بالبحر والذي برز للوجود بالعقد الأول من القرن العشرين. وبدأ سوق المدينة كملتقى لتجار اللؤلؤ أو الطواويش.
وعلى جزيرة المحرق المقابلة برزت قلعة أبو ماهر على البحر، وانتصبت قلعة عراد على الشاطئ مباشرة. ثم كان هناك قصر الشيخ عيسى بن علي بالمحرق الذي كان يطل على أرض خلاء تأخذه مباشرة للبحر.
وهكذا التقى العاملان الأمني والمعيشي ليمليا قيام المدينة. وسهّل الأمر وقوعها على شواطئ ضحلة وبوجود فشوت أو مناطق تبتعد عن الساحل ولكنها ضحلة بدورها لتسهل عمليات أخرى مثل صيد اللؤلؤ وصيد السمك وقص الأحجار البحرية من الشعاب المرجانية المتراكمة بفعل السنين. وأضحت المدينة مركزاً حيوياً يجذب تجار الخليج لما يعرضه من مواد أهمها اللؤلؤ المنتج محلياً، ولكونها تشكل سوقاً بطلب مزدهر على بضائع يحتاجها سكان الجزر المتزايد عددهم.
الماء
على أن ذلك لم يكن ممكناً دون عنصر الحياة الأساس: الماء. وتظهر خرائط المنامة وقوعها على أرض بها مجموعة ينابيع تحيط بالمدينة براً وبحراً، وأشهرها عين عذاري. وغلب الطابع الصحراوي على جزر البحرين. وتركزت المياه في الجانب الشمالي من الجزيرة الأكبر وبالمحرق والسواحل المحيطة بها وهكذا برزت شروط المكان التي استجابت لها المنامة، وشكلت انعكاساً لها.
شحّت مياه الأمطار عن البحرين فهي جزء من نطاق صحراوي يمتد إلى الغرب والشمال والجنوب، بل وحتى إلى الشرق على الساحل الإيراني. ووسط هذه الصحراء الجافة القاسية انبجست الأرض وقاع البحر عن عيون جرت عبر قنوات وانكسارات تحت الأرض وتمتد من جبال بالجزيرة الأم، تستقبل أمطاراً فتمتصها وتختزنها بجوفها لتمتد بأنهار بقلبها نحو الشرق وتتفجر لأسباب جيولوجية خاصة بها حول جزر البحرين وبها. فقد انخفضت الجزر عن خزان يقع بصحراء الدهناء إلى الغرب منها، فاخترقت المياه الحلوة الصخور الهشة وخرج ماءاً عذباً أضحى مصدر حياة للبشر ليقطنوا عليها. وعلى تلك المياه ومنها نشأت مزارع أحالت صحراء البحرين إلى نطاق أخضر لا تغفله عين القادم إليها بحراً (ولاحقاً: جوا) وبالذات مقارنة مع الصحراء الممتدة.
ويستعيد بن حموش في كتابه حكايات من مصادر شتى عن عيون وسواقي ما عادت بارزة للساكن بالجزر بالقرن الواحد والعشرين. فهناك عيون ”مقبل”، ”علي”، ”القفول”، و”السجور” كأمثلة.
ثم تبقى العين الأشهر وهي عين عذاري المتدفقة في جدول إذا وقف الرجل في مجراه ”لا يكاد يمسك نفْسِه لشدة دفعها”. وما لم توجده الطبيعة خلقته مخيلة الإنسان، ومنذ بروزها في بدء تاريخ التحضر الإنساني قبل أربعة آلاف ونصف ارتبطت البحرين بالأساطير بسبب الماء، ولسبب احتوائها على اللؤلؤ، فكانت دلمون أرض الخلود وأصل فكرة الجنة في الأديان السماوية الثلاث. فانضاف لجذبها جذب.
اقتصاد المنامة
يواصل بن حموش القول بأنه ووفق نظرية ابن خلدون يتطلب العمران البشري وجود الماء والأمن وسبل المعيشة الأولية. وكان ذلك ما وجد في البحرين على مر العصور، وبالمنامة بدءا من بداية القرن التاسع عشر. استفادت المدينة من عهد استقرار نسبي بعد قدوم المزيد من القبائل العربية بنهاية القرن الثامن عشر والتغير الذي لحق بموقع الجزر ضمن سياسات الخليج. والسلام الذي لم توفره اضطرابات الصراع على السلطة بين تلك القبائل والحكام الأول من آل خليفة، جلبه الاهتمام البريطاني بالجزر الذي رأى فيها مدخلاً للسيطرة على البحرين، بل وكل على بقية الخليج. كان يحتاج لمثل يضربه لحضوره الطاغي بعد هزيمة بقية القوى الأوروبية وهيمنته المطلقة بعد حملته ضد ساحل عمان العام 1919 وبدء السلام البريطاني بعد توقيع معاهدات السلام البحري العام .1820 كانت المنامة هي الأفضل والأكثر تأهيلاً.
اعتمد سكان المنامة في أول عهدهم على الزراعة بداخل المدينة، وما لم يأت من داخلها وفره نطاق أخضر من القرى المحيطة ملئ بالفواكه والخضروات. أحيطت المدينة من الجهة الجنوبية الغربية بكثير من بساتين النخيل. استقام بالقرب منها حوالي 500 نخلة، وكان بالنعيم 800 نخلة. ووجدت بالحورة من الجهة الجنوبية الشرقية 300 نخلة وبالجفير 2230 نخلة. ثم امتدت أوسع مناطق النخيل باتجاه الغرب وصولاً للبديع. ففي جدحفص زرعت 16500 نخلة وببني جمرة 1300 نخلة وفي بلاد القديم 12 ألف نخلة. ووسط تراجع الزراعة بالبحرين ظلت امتدادات النخيل قائمة إلى الثمانينات من القرن الماضي، حيث بلغ عدد أشجاره بمجمل الجزر 892 ألف نخلة، يعتقد بن حموش أنه يمثل ما يقارب من 47% من نسبة النخيل الموجود سابقاً يمتد كشريط أخضر متصل بالمنطقة الشمالي، موازياً البحر وبعمق 5 كلم في الوسط وينخفض إلى 3 كلم في الشرق والغرب. وأوجد ذلك الأساس لأسطورة بلد المليون نخلة.
البحر
وأضيف للنشاط الزراعي الذي ميّز المنامة اعتمادها على الصيد البحري وتجارة اللؤلؤ. وعند زيارة تيودور بينت كان معظم سكان المنامة هم تجار وغواصون. ونشأت بالمدينة عدة حرف متكاملة ترتبط بالبحر مثل الغوص والصيد والملاحة وصناعة السفن، وشاركت المنامة مدناً خليجية أخرى مثل تلك النشاطات وزادت عليها. كان تجار المدينة قد أقاموا نظاماً ربوياً تحت مظلة الشرع الإسلامي لإدارة اقتصاد اللؤلؤ الذي يقف على رأسه تجار اللؤلؤ أو الطواويش وملاك السفن، ويليهم النواخذة أو ربابنة السفن ثم الغواصون، وغلب على حياتهم الفقر والفاقة وكانوا في وضعية لا تختلف عن العبيد. بل وزادوا على ذلك أن العبد ينتهي استعباده بوفاته، ولكن الغواصون يموتون ولا يموت الدّين عليهم بل ينتقل لأولادهم. وانعكس هذا النظام على طابع الاستقرار بالمدينة فكانت البرستية المصنوعة من سعف النخيل هي بيوت الفقراء وانتشرت بحكم أعداد قاطنيها بكل مكان بالمدينة. وبالمقابل شيّد التجار والأوفر حظاً بيوتاً من الحجر في مركز المدينة وبين الفئتين برزت طبقة وسطى. واستمر هذا النظام قائماً حتى إصلاحات فرضت العام 1926 على يد الإدارة البريطانية، لقت صدى اجتماعياً خاصة لدى الفقهاء وعلماء الشريعة حسب بن حموش. ولكن ذلك كان قد وصل متأخراً فقد أوشكت صناعة اللؤلؤ أن تنتهي لاكتشاف اللؤلؤ الصناعي. وسددت الأزمة العالمية سنة 1929 الضربة القاضية لها. ثم أتى البترول لينهيها بالكامل. ولكن قبل ذلك كان كل شيء بالمدينة يرتبط باللؤلؤ والغوص والبحر. فبلغ عدد السفن العام 917 ,1907 سفينة يشتغل على ظهرها 17500 فرد. وبينما انخفض عدد السفن إلى 500 سفينة بين 1926-1930 ارتفع عدد العاملين عليها إلى 20 ألف. وارتفع عدد السفن في العام الحاسم 1930 إلى 509 وانخفض عدد العاملين إلى .19500 وبعدها تغير الوضع فتراجع عدد السفن في الأعوام 1935 و1940 و1945 و1948 إلى 316 و191 و121 و,83 وتدهورت أعداد العاملين إلى 11500 و7500 و5100 و2000 تباعاً. كان ذلك إيذانا بمغيب نظام اقتصادي وحلول نظام آخر بالمدينة محله.
حرف مكملة
وأفسحت المنامة المكان لحرف مكملة للنشاط البحري، فتطورت صناعة السفن أو القلافة وكانت توظف ما يقرب من200 قلاف بالمهنة. وبيع ما يقرب من 130 سفينة لعمان في العام 1903-.1904 وكانت تغادر المدينة وتعود إليها ما يقارب المائة مركبة مائية. وبتراكم الخبرات والملكات التجارية بالمنامة نشأ المجلس العرفي ليجمع كلمة التجار ويوحد كلمتهم ويقضى على الخصومات ويسمح بالتشاور.
وتشكل نسيج حضري مميز من العمران وسطها. فاستقام الميناء الممتد إلى داخل البحر متعامداً مع سوق المدينة وكان باب البحرين الرابط بين الاثنين. واتصل البحر بالمدينة بطرقات متوازية. كان ذلك أقصر الطرق لتوصيل المنتوجات القادمة من البحر إلى سوق المدينة ومنها إلى السكان. ومثّل السوق نقطة الجذب بالمدينة، حيث توافر به 450 محلاً تجارياً وسوقاً مركزية مفتوحة، استقامت البلدية الحالية مكانها. وانتشرت أسواق الحرفيين وسط شبكة الدكاكين بها: فكان سوق البز للألبسة والأقمشة، وسوق الطواويش للؤلؤ، وسوق الصفافير لتجارة النحاس والحدادة، وسوق الحراج أو المقاصيص للبضائع المستعملة. ويضاف لذلك كله أسواق اللحم والخضار والفواكه. ثم هناك سوق القراشية لتجار من أصول هولية يسيطرون على تبادل المواد الغذائية غير الطازجة، مثل الحبوب والبهارات. وتتخلل هذه المحلات طرق ضيقة ومتعرجة تقي من حر الشمس وتضمن مرور الهواء البحري. إلا أن السوق الأساس والذي عرف بسوق الطواويش كان مسقوفاً وعرف بهذا الاسم أيضاً. وامتد سوق القيصرية أيضاً لبيع الأشياء الأغلى ثمناً. وكانت المدينة في نشاط اقتصادي يمكن قياسه من خلال سجل ضرائب يأخذها الحاكم.
الوقت – قسم الدراسات والتطوير