من تاريخ سوق المنامة القديم، مهنة الطواشة.. إلى أين انتهت؟
بالتنسيق بين اللجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة و«أخبار الخليج»، قمنا بمرافقة كل من بديع عبدالرحمن السعد ومحمود النامليتي عضوي اللجنة الأهلية لزيارة احد محلات صناعة وبيع الدانات، وهو محل عبدالعزيز حسن المناعي بسوق الطواويش القديم الملاصق لسوق الذهب شرق شارع التجار, وذلك بهدف التعرف على المهن القديمة التي كان لها صوت وصدى وموقع في سوق المنامة القديم. ومنها (مهنة الطواشة) أي (صناعة وبيع اللؤلؤ) أو ما يعرف في التراث البحريني بـ «الدانات» لدرجة ان تسمى البنات حتى الآن في البحرين ومنطقة الخليج العربي بـ (دانة) أي البنت الجميلة، وقد برزت في هذه المهنة أسماء عائلات بحرينية منها: محمد المناعي (أبو طلال) وعبدالرزاق المحمود وإبراهيم بومطر وبن هندي والحليبي والبلوشي وهنود وغيرهم، عوائل لمعت مع لمعان اللؤلؤ قبل عشرينيات القرن الماضي واستمرت الى خمسينيات وستينيات القرن الماضي حيث مثلت هذه المرحلة ازدهار سوق الطواشة لارتباط هذه المهنة (جمع الدانات) بالغوص في أعماق البحر.
وقد تراجعت المهنة بعد اكتشاف النفط في البحرين في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، والسبب هو ضنك المعيشة وصعوبة المهنة وقلة المدخول وشقاؤها وخطورتها على الغواص والسياب، والحمد لله ان بعض هذه العوائل مازالت تمتهن الطواشة ولو بمفهوم الحد الأدنى.
فما هي خصائص وحيثيات هذه المهنة؟ وإلى أين وصلت وانتهت اليه، وهل مازالت موجودة، وأين مكانها في سوق المنامة؟ وهل هناك محاولة لإحياء هذه المهنة حيث سمعنا ان هناك محاولات من شباب البديع والحد وسترة في الحصول على المحارات، واخراج الدانات منها، وإحضارها لبيعها هنا، وما هي أسعارها؟ وهل يمكن لو حصل اهتمام بهؤلاء الشباب ان تشكل نقطة جذب عمل لهم؟
مؤسسو الطواويش
بدأت جولتنا بالعاشرة والنصف صباح أمس الأول في سوق الطواويش، والتقينا بعبدالعزيز المناعي، وهو أحد أبناء مؤسس هذه المهنة في عائلة المناعي، وهو (حسن بن يوسف المناعي) رحمه الله، وكان يطلق على من يأخذ عددا من البحارة وعددا من اللنجات إلى البحر على مدى أربعة إلى خمسة شهور كل عام في البحر، يسمى «نوخذة».
طلبنا منه ان يحدثنا عن تاريخ هذه المهنة، وما سمعه زمان من حكايات وقصص وشقاوى ممن عاصروا ازدهار المهنة، وإلى أين وصلت، وهل يتعاملون فيها، وما هي أنواع الدانات؟
فقال: «نحن كنا نستلم الدانات جاهزة أي مخرجة من المحارة، ومازلنا على نفس المنوال مشيرا إلى ظهور عدد من الشباب البحريني من أهالي البديع والمحرق (قلالي والحد) وسترة في الغوص في البحر»، والحصول على محارات، وفيها (دانة)، منوها في الوقت ذاته إلى أنه ليس في كل محارة دانة.
اعتدل عبدالعزيز في جلسته، وهو على كرسيه، وبنظارته، رفع رأسه لنا قائلا: «كما ترون إلى أي مدى انتهت اليه سوق الطواويش، وما يريده الطواشة من الجهات الرسمية والمسئولة عن سوق المنامة هو دعم أولي للوقوف على أرجلهم»، ولا شيء سوى العمل على إحياء هذه السوق، ولا تذهب مع الرياح، وكأنها لم تكن من تاريخ البحرين، وعليه سوف لا يعرف عنها الجيل الحالي شيئا.
الدانة الحجم والشكل
بعدها، استدار على كرسيه مرة أخرى، ومن الخزانة القريبة عليه، أخرج (دانة) صغيرة الحجم مدورة الشكل (5 إلى 6) سنتيمترات مربعة، اشتراها قبل يومين، وزنها 3 جاو، وقيمتها 5000 دينار، تحسسناها، فوجدنا لها لمعانا ووزنا، وتابع هذه الدانة تخرق من الجانبين بدقة متناهية، وللحقيقة، فإن عملية خرق الدانة تتطلب مهارة وحرفية ودقة لدرجة ان تقطع الدانات إلى جزيئات صغيرة جدا ثم تخرق هذه الجزيئات، هو عمل بقدر أنه فن عجيب، فإنه مثير للتساؤل في كيفية دقة الخرق والربط بين الأجزاء لدرجة ان الناظر لها يقول (هذا مستحيل)! ولكن الواقع.
ثم أرانا نوع آخر (مشلح) وهو عبارة عن سلسلة مقطعة من الدانات ومربوطة في بعضها كأنه عدة مسابيح مع بعضها، وسألناه عن قيمته، فقال: هذا المشلح قيمته 155 ألف دينار) وذكر لنا ان هذا (المشلح) مرفق بشهادة من قسم حماية المستهلك بوزارة الصناعة والتجارة، ويأخذ وقتا للفحص، وليس عملا سهلا.
الشغف بالدانات
كما ذكر ان تعلق المواطن البحريني بالدانات وحبه وشغفه لها، هو في الحقيقة شغف لقيمتها المادية، والرمز الذي ترمز اليه حيث من يمتلك دانة أو أكثر يعني أن وضعه المادي بخير وفي تحسن متى ما واصل التعامل في شراء وبيع الدانات جعلته يسمي البنت التي تولد له باسم «دانة» أي لؤلؤة أي البنت الحلوة الجالبة للخير وللثراء على أهلها، فوجودها بهذا الاسم وفي هذا البيت، يتوقع ان تنقذهم من بساط الفقر والجوع والحاجة، ومن أنواع الدانات، ذكر منها: حلوة ومولودة وبدلة وشيرين وجي ون وسوبر جي ون ودمعة وغيرها، وأسعارها ترتفع وتقل حسب المسمى الذي يستند على الشكل والحجم.
من الكويت
كما شاءت الصدف ان يحضر لاحقا الدكتور جاسم محمد الصقعبي من دولة الكويت الشقيقة، وهو ضليع وملم بقضايا الغوص والدانات، فانتهزناها فرصة للحوار ليثري اللقاء بمزيد من المعلومات حول صيد اللؤلؤ وجمع الدانات وصعوبة المهنة والنوخذة والعمق الذي يغوص فيه البحار والمخاطر التي يتعرض لها فيما إذا تعرض أحدهم إلى المرض أو الوفاة.
فقال: «يغوص البحارة ما بين 10 إلى 12 باعا، والباع حوالي متر ونصف، ويغيب البحارة مدة 4 و10 أيام و(ريوقهم) (33 فردات تمر وقهوة) صباحا والغذاء يشوون (الموجود في القرقور)»، اما إذا مرض أحد البحارة، فالكي هو الحل والدواء، وإذا تدهورت صحته، وتوفي فيلقى في البحر، تأكله الأسماك بدون رحمة، فما أقسى تلك اللحظة وثقلها وألمها على الباقين أو على الاهل حين يعرفون أنه لم يعد معهم.
ملامح صيد اللؤلؤ
في الكويت كان يخرج موكب كل نوخذة بـ 255 (شوعيا) (مركب صيد متوسط أو كبير الحجم) في مناطق صيد مثل: خلالوه، بوعبقة، إعفيضات، بحر العدان, يستقبلهم الأهالي بالترحيب والغناء عند العودة، وقد يتحول المشهد من فرح إلى بكاء. وماذا عن ألوان الدانات، فكشف لنا عددا من الأسماء مثل: الكراكي، سميكاس، جلوار، سماوي، نباتي (وردية اللون)، حجر شيخ، والأبيض الصريح ويسمى (جي ون)، أما عن أنواع الدانات، فقال كثيرة، منها: البركة (النواعم)، القماش، خشم، إزويل، المرد، بدل، رأس، أروبين، راهي، ورأس راهي، وأكبرهم هي الدانة، وهي أجملهم، وعليه سميت بنات الخليج بإسم «دانة» أو لولوة.
ثم سألنا الدكتور عن الأغاني التي كانت تردد حينها في فترة الخروج حين الغوص، وهي على شكل من أشكال الغناء يعرف بـ: «النهام»، فقال: الغواص والمجدمي والشباب وهم من صغار الغواصين (يحصلون على فتات ما يرميه الغواصون في البحر) ثم سروال (أمير الغواصين) والسياب، ويستخدم الغواصون أداة تسمى «المفلقة» وهي سكين حادة لفتح المحارة.
مخاطر الغوص
وأخيرا طلبنا منه ان يحدثنا عن المخاطر التي يتعرض لها من يذهب إلى الغوص، فكشف عما يلي: الغوص مهنة معرض من يمارسها لعدة مخاطر قد يفقد فيها حياته، ومنها: سمكة البحر، التول وهو من الرخويات يسبب ارتفاع حرارة الجسم، أبو زيزي (فرس البحر)، الذكر منه صغير الحجم يشخص سواد العين، فيلسع عين الغواص، ويضربها، كما هناك ما يعرف بالسمكة الصخرية، يعتقد الغواص انها صخرة لكنها سمكة سامة جدا لا يتخلص من أُثرها الغواص إلا بالكي حيث لسعتها تشل اليد، كما يسبب عمق المياه والغوص لمسافة 10 إلى 12 باعا طنين الأذن، وتعالج الأذن بالكي، وإذا تعذرت صحة المريض، وتوفي، يلقى في البحر، كما هناك خطر هبوب الرياح الشديدة وما يسببه من قلب الشواعي واللنجات وغرق من فيها.
دعوة للاهتمام
ونختتم جولتنا بمشاركة من محمود النامليتي نائب رئيس اللجنة الأهلية لتطوير سوق المنامة الذي رافقنا في الجولة، قائلا: شهدت البحرين مهنا كثيرة منها الطواشة وصيد الللؤلؤ والصياغة وصناعة الحلوى والبهارات، وانتهى معظمها، و(نتوجل) – نتوجس خيفة – من أن الجيل البحريني من الشباب لا يعرف ماضيه وتاريخ أجداده وآبائه.
وعليه دعا الجهات الرسمية والمسئولين في وزارة الصناعة والتجارة ووزارة البلديات ووزارة الثقافة والسياحة وغرفة تجارة وصناعة البحرين إلى إيلاء هذه المهن اهتماما خاصا يعيد لهذه المهن تاريخها ولو بالبصيص سواء من خلال تحسين أماكنهم وورش أعمالهم أو من خلال تجميعهم من جديد في أماكن خاصة بسوق المنامة مشيرا إلى أن الاهتمام بالمهن القديمة والورش التاريخية هو نبراس عمل للدول السياحية، واستفسر فما المانع من ان تستفيد مملكة البحرين من هذه المهن التراثية وبالتالي من سمعة سوق المنامة الذي كان يعج بمختلف الباعة والصناع والتجار والموردين والمصدرين من البحرين وإلى الدول الخليجية الشقيقة وإلى إيران والهند.
لقاء أجراه: مكي حسن